.jpg)
أسامة داود يكتب: عشوائيات الصحة تبتلع مهنة الطب!!

مع جائحة كورونا تُنكأ الجراح وتتكشف خفايا المنظومة الصحية فى مصر لنجدها مثل التعليم تدهورت وتراجعت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضى.. أطباء تحولوا بسبب تراجع الأجور إلى سرِّيحة، بما يشبه الباعة الجائلين تتقاذفهم الحياة من المستشفيات إلى المستوصفات ثم العيادات "كعب داير" بلغة وأسلوب البحث الجنائى مع المشتبه فيهم للتأكد من صحيفة سوابقهم.. كان ذلك فى الماضى قبل التكنولوجيا وإمكانية الكشف بالرقم القومى من خلال الأجهزة الحديثة عن كل ما يتعلق بتاريخ وحياة كل إنسان وسوابقه فى بضع ثوانٍ. أما مهنة الطب فأصبحت الآن مهنة "الكعب الداير" بين كل منوعات الصحة فى مصر والتى تكاثرت مع ابتداعات منظومة صحية لا تملك علاج نفسها، فأضحى هناك العيادات ثم المستشفيات الخاصة وبعدها المستوصفات وأخيرًا العيادات المجمعة مثل فيزيتا وتنظيمات عشوائية أخرى تكونت- فى ظل غياب دور الدولة أو فلنقل تراجعه فى هذا الأمر- ومن مهنة إنسانية تحصنت لقرون بموقعها فى تاريخ البشرية بكونها مهنة تمنح ممتهنيها المهابة والوقار بما حباهم الله من قدرة على التعامل مع أسرار البنيان الربانى ألا وهو جسد الإنسان.. لتنتقل مع العجز وتتحول لدى البعض إلى سبوبة يتحكم بها سماسرة الطب الذين تولى بعضهم مسئولية الوزارة - يعنى أكبر رأس فى المنظومة - يبتدعون أساليب طب السوق السوداء مقابل عدم مطالبتها- أى المنظومة - بتفعيل دورها لتصبح إدارة الصحة لا ترى.. لا تسمع.. لا تتكلم.. فكيف بالله لمثل هذه المنظومة أن تحقق العلاج الآمن لمجتمع الـ 100 مليون مواطن؟! وأسوق مثالاً من واقع حياتنا نتعرف من خلاله على موقع مهنة الطب وحياة المواطن من أمور أخرى.. هل من الممكن أن تجد محطة توزيع وقود تبيع لتر البنزين بأكثر من سعره المحدد سلفًا بمليم واحد؟ ولو حدث.. هناك إجراء هو سحب المحطة ووضعها تحت تصرف وزارة البترول لإدارتها وليس غلقها. بينما تترك عشوائيات الصحة المسماة خطأ مستشفيات خاصة أو استثمارية ترتكب جرائم ضد المرضى وتفرض على أهاليهم مبالغ مفزعة دون بادرة تحرك من وزارة الصحة لوضعها تحت إدارتها رغم أنها تتاجر بحياة الناس.
كريمة المجتمع
تبدأ حياة الطبيب كطالب متفوق حصل على الثانوية العامة بمجموع يصل إلى 100% ثم تخرّج فى كلية الطب بعد 7 سنوات كبيسة من الدراسة التى لا يتخللها أى إجازات.. تلك شريحة تمثل كريمة المجتمع الشبابى للدولة، وبعد رحلة المعاناة يتم التخرج ليُصدم بتكليف يلقى بأبناء الصعيد فى الوجه البحرى ويلقى بأبناء بحرى فى الصعيد وأبناء القاهرة فى مدن القناة أو فى نهايات حدود الدولة. نظام غريب وعقيم والأغرب.. والأنكى أن هذا النظام يجعل مدة الخدمة فى الطب بما يشبه التجنيد الإلزامى، وإن كان الأخير هو حق الوطن على كل فرد للدفاع عن أمن وأمان الدولة وهو لمدة محددة.. لكن نظام التكليف والتعيين والتعامل مع كريمة المجتمع كفاءة وعلمًا وتفوقًا يكون دائمًا غير منقطع وبأقل القليل وكأنها رهبانية إلزامية. من التكليف إلى التعيين وبأجر لا يتجاوز 2000 جنيه شهريًا (تعادل 130 دولارًا) مُطالب الطبيب منهم بأن يعيش حياة آمنة هادئة مستقرة بما يلزمها من مسكن وزواج وإعالة أسرة تعليمًا وعلاجًا ومأكلاً وملبسًا، وحتى يستطيع أن يؤدى عمله بتفانٍ وإخلاص وحرص على حياة مرضاه. طبيب يتحول مع راتب تقرره الدولة إلى سرِّيح أو بائع متجول يقفز من مستشفى تم تعيينه به، إلى مستوصف يكشف ويفحص ويسجل الدواء لطابور من الفقراء بطول السنة السوداء، ثم إلى عيادة خاصة قد يكون شريكًا فيها أو أجيرًا لدى آخرين مقابل نسبة من الكشف. هذا مع أن بمصر - لمن تتاح لهم الفرصة - أبرع وأكفأ علماء الطب، وهناك آخرون يتولون أرفع مواقع فى المستشفيات الشهيرة بكل أنحاء العالم.مرمطة الأطباء والتمريض
حزنت لما سمعته خلال حوار تليفونى دار بينى وبين عميد أحد المعاهد العلاجية الكبرى بالقاهرة وهو يقول أصيب لدىّ 80 عنصرًا فنيًا من طبيب وتمريض بكورونا.. ويصعب تحديد العناصر المخالطة لهم والموقع الذى نقلت منه إليهم الإصابة، والسبب أن الطبيب يعمل فى عدد لا يقل عن 5 أماكن يوميًا بخلاف ذلك المستشفى.. يعمل بمستشفيات استثمارية ومستوصفات وعيادات فيزيتا وعيادة خاصة ثم يعود لى مصابًا.. ويقترح الرجل أن يتم رفع أجر الطبيب أو عنصر التمريض فى موقع عمله الأصلى إلى عدة أضعاف ما يتقاضاه حاليًا مقابل أن يعمل كامل وقته فى مكان واحد وبالتالى لا يحتاج إلى مصدر آخر للدخل، وهنا يكون قد تم تأمينه من التنقل والتعرض للإصابة بعدوى يصعب تحديد مصدرها. وعن مهمات الوقاية التى يوفرها كمعهد قومى للعلاج يقول عميد هذا المعهد.. إنه يتم توفير المواد والمهمات اللازمة لتأمين الطبيب ضد الإصابة بالعدوى بما يصل قيمته إلى 600 جنيه يوميًا.. بينما المستشفيات الخاصة تقدم له كمامة فقط أثناء العمل. ومرمطة الأطباء تمثل برنامجًا يبدأ من وقت التخرج حتى الشيخوخة.. وتركهم فريسة لسوق الصحة السوداء التى انتشرت بعد تراجع دور وزارة الصحة التى يكتفى بعض قياداتها بالمشاركة فى نشر عشوائيات الصحة من مستشفيات خاصة ومستوصفات وعيادات وتنظيمات معظمها شمال! وبعد جائحة كورونا التى كشفت لنا حجم المأساة التى يتعرض لها الأطباء والتمريض وكل العناصر الفنية فى منظومة الخدمة الطبية داخل المستشفيات بكل تشكيلاتها.. يأتى السؤال الأهم.. هل نكتفى بمؤازرتهم بأغنية جيش مصر الأبيض وتركهم فريسة للتآكل بخوض غمار الحرب دون تأمين حياتهم وحياة ومستقبل أسرهم؟! [caption id="attachment_22316" align="alignnone" width="1000"]